-
من التأميم إلى الاستحواذ الكلي بالاستملاك.. "سوريا: من الاشتراكية إلى العبودية العصرية"
من الإجهاز على القطاع الخاص والبرجوازية الوطنية السورية بقوانين التأميم ودعوى الاشتراكية، واستكمال حلقة الاستيلاء على الدولة ومؤسساتها، إلى الإجهاز على أملاك غالبية السوريين بالاستملاك التعسفي؛ سيرورة سوريا عنوانها الهدم والإلغاء التعسفي وإجهاض أي مشروع وطني يستهدف دولة الحق والقانون والعدالة. فقد مثلت الاشتراكية والوحدة والحرية، شعارات البعث الذي حكم سوريا منذ عام 1963 لليوم، بيئة سياسية عامة لنزع الملكيات الخاصة تحت عنوان التأميم، وتحويلها لمكية عامة للدولة، أو هكذا أرادها منظرو وقادة البعث الأوائل، لتكتمل حلقاتها بقوانين الاستملاك الجائرة للسورين المهجرين والنازحين والمعارضين اليوم.
التأميم والاستحواذ على ملكيات القطاع الخاص التجاري والصناعي الناشئ لم ينهِ عصر التنوير السوري الذي بدأ منذ بدايات القرن العشرين وحسب، إنما تحول مع حكم السلطة العسكرية الأمنية لحزب البعث منذ انقلاب 1963 لمنظومة عمل للاستحواذ المطلق على مقدرات الدولة ومؤسساتها، ما قاد لتماهي منظومة الحكم والسلطة مع الدولة بحيث لا تستطيع لليوم التفريق بين مؤسسات الدولة التي يفترض أن تكون حيادية تجاه مكونات المجتمع عامة، وبين نظام الحكم والسلطة الحاكمة.
سوريا تاريخ سياسي معاصر يوصف بالدولة التسلطية[1]، حسب خلدون حسن النقيب، دولة تحكمها المركزية التسلطية السياسية، واليوم تحولت لسياسة سلطات الأمر الواقع ذات مركزية أمنية سياسية فائضة مع لا مركزية مالية محيطة واقتصاد ريعي قوامه فرض الإتاوات والفشل الاقتصادي العام.
بعد العام 2011 وتدريجياً، تحولت هذه السلطة إلى الاستيلاء على العقارات والأراضي السورية بشكل عمومي، بقوانين استملاك محدثة في زمن الحرب، سواء كانت بنص قانوني مرفق بمرسوم أو بوضع اليد المباشرة عليها بطرق متعددة مدعومة بقوانين محكمة الإرهاب. حيث تشير الأرقام والوثائق المحلية، خاصة في المناطق التي كانت مسرح عمليات عسكرية واسعة وتحولت لمناطق تغيير ديموغرافي شاملة، لتحول سوريا بحكم الاستملاك الجائر لمجتمع من العبيد ودولة لاقتصاد الريوع بدلاً من الاقتصاد الاشتراكي، ويبدو أنها لم تكن اشتراكية أبداً بقدر كونها دولة تم الاستحواذ عليها بالتدريج من قبل السلطة الحاكمة فيها.
التأميم والاستثمار والاستملاك أدوات فعالة بيد السلطة السورية، والاقتصاد السوري بإنتاجه وادارته برمته يخضع لما تريده أو تخطط له. هو اقتصاد مركزي مغلق، تستحوذ عليه سلطة أوليجارشية نافذة وقليلة العدد وتهيمن على كافة موارد الدولة بشرياً ومادياً واقتصادياً وسياسياً بطريقة الإدارة المحكمة أمنياً أو ما يسمى بالدولة الأمنية العميقة. أما التطور الطارئ عليه، ومنذ العام 2012، تحوله من نظام شديد المركزية الى نظام اقتصاد لامركزي ريعي متعدد الموارد[2]، يقوم على جني الريعية الربحية من خلال تأجير مجمل الموارد الاقتصادية السورية للخارج أو لشركاء الداخل، مع توزيع سوريا لقطاعات انتفاع محضة تستنزف كافة مواردها مقابل ألا ينهار نظامها المركزي السياسي. فإن كانت سياسة تأجير المنافع العامة السورية لما يسمى بالحلفاء الروس والإيرانيين (ميناء طرطوس، مطار دمشق الدولي، مناجم الفوسفات...) لأجل طويل يصل لمدة 49 عاماً قابلة للتجديد[3]، فإن إحدى أهم أدوات هذه المرحلة في الاقتصاد الداخلي هي سياسة الاستملاك المشرعن بقانون أو بوضع اليد المباشرة، وتغير أدوات الانتفاع السياسي والمالي وتجريد قوى الشعب السوري من مقدراته المادية والاقتصادية إلا فيما يخدم بقاء واستمرار السلطة السياسية!
استملاك الأراضي والعقارات في السنوات الأخيرة في سوريا، سياسة ممنهجة تتبعها السلطات السورية مدعومة بقوة قانون الإرهاب الأمني[4]، الذي حل محل قانون الطوارئ[5]، وبالقوة العسكرية المباشرة، وبنصوص قانونية مبرمة بمراسيم رئاسية تشريعية. وخلاصة هذه السياسة هي إعادة توزيع الملكيات السورية على فئات محيطة بالسلطة المركزية من ضباط وقادة ميليشيات رديفة وإدارتها ريعياً، ما يضمن الولاءات والاستثمار وتكريس الهيمنة، والإجهاز على ما تبقى من رصيد مادي وعقاري وملكيات صغيرة كانت أو كبيرة لدى السوريين، سواء المهجرين منهم، أو المتهمين بقضايا الإرهاب واسعة الطيف.
التأميم والاستحواذ على السلطة اقتصادياً ومادياً:
لم تحكم السلطة السورية المتغولة قبضتها الكلية على الدولة ومؤسساتها بالقوة السياسية والأمنية والعسكرية وحسب، بل بالاستحواذ على مقدرات الدولة اقتصادياً ومادياً بالجذر. مع الزمن وبشكل متتالي، بُدء بالاستحواذ الجزئي (بنسبة من الملكيات الخاصة) وفقاً لدستور 1950، وصولاً للاستحواذ الكلي مع دستور 1973، وذلك عبر نزع القوة الاقتصادية من أيدي برجوازيتها الوطنية وشركاتها الخاصة، حيث تم الإجهاز الكلي على القطاع الخاص وقدراته المادية والاقتصادية وتحول الدولة فيها لمجرد مؤسسة بيد السلطة الحاكمة. هذه المراحل التدريجية تمفصلت زمنياً:
تشير الوثائق السورية أن قرارات التأميم (والتي تعني تحويل ملكية القطاع الخاص لملكية الدولة بغية تحقيق المساواة المفترضة) بدأت مبكرة منذ ما قبل عهد الوحدة السورية المصرية، لكنها كانت قرارات لا تقوم على الاستحواذ الكلي، بل على نسبة جزئية منها. حيث جاء بالمادة (24) من دستور 1950: "للدولة أن تؤمّم بقانون كل مؤسسة أو مشروع يتعلق بالمصلحة العامة مقابل تعويض عادل"[6]. لتتوالى قوانين التأميم التي تم بموجبها تأميم العديد من الشركات بين عامي 1951 لغاية عام 1958: شركة حافلات النقل الكهربائية في دمشق، وشركات الكهرباء والمياه في كل من دمشق وحمص وحماة ودير الزور والقامشلي، وشركات الكهرباء والمياه والحافلات الكهربائية في مدينة حلب، وشركة الخطوط الحديدية السورية، وشركة حصر التبغ والتنباك ومصرف سوريا ولبنان. ومن تم متابعة ذات النهج في مرحلة الوحدة السورية المصرية وفقاً لذات الأسس وتحت عنوان بناء الاشتراكية والاستملاك الجزئي مع التعويض بحصة من الأسهم للمالكين الأساسيين[7].
بعد الانفصال ومنذ عام 1961 تابعت الحكومات قرارات التأميم، وبشكل تدريجي، فكان تأميم البنوك وشركات التأمين السورية والشركات والمنشآت العامة. وتأميم شركتي السورية الغزل والنسيج والأهلية للغزل والنسيج وشركة (الدبس) والمغازل والمناسج والشركة العربية لصناعة الأخشاب عام 1964[8].
بدءاً من استيلاء عسكر البعث على السلطة عام 1963، ورويداً ومع اتساع الصراع على السلطة في سوريا، تمت متابعة خطوات التأميم لكن مع اختلاف في صيغتها، إذ تحول من الاستملاك الجزئي إلى الاستملاك الكلي وبنسبة 100%، لتشمل ما يزيد عن 100 شركة ومصنع، كالشركة السورية لصناعة المعادن وغيرها. وهنا يوثق باتريك سيل في كتابه الصراع على الشرق الأوسط: "بنفي محمد عمران وتحييد ميشيل العفلق تحرك المتشددون على الفور لتحطيم القوة الاقتصادية لبرجوازي المدن وقال الأسد: كنا مصممين على إنهاء استغلال حفنة من العوائل. ففي الأسبوع الأول من عام 1965 تم تأميم ما لا يقل عن 100 شركة خاصة منها مجرد ورشات"[9]، لتستحوذ الدولة على مجمل قطاعات الحلج والنسيج والطاقة والكهرباء، وما يزيد عن 70% من الاستيراد والتصدير[10]. لتصل سوريا بعد عام 1970 لدولة تستحوذ السلطة فيها على كامل مقدرات الدولة ومؤسساتها، ونقاباتها المهنية بظل قيادة حزب البعث قائد الدولة والمجتمع وفق دستور 1973[11]. حيث تم تأميم أنابيب النفط العائدة لشركة نفط العراق وخطوط النفط المارة داخل سوريا عام 1972، واستحداث الشركة السورية للنفط وتبعيتها لوزير النفط والطاقة السوري[12]. لنصل للنتيجة المستخلصة:
الاستحواذ الكلي الأمني والعسكري والسياسي على السلطة، وذراعه الأقوى التأميم تحت عنوان الاشتراكية كقوة مادية بيد السلطة الحاكمة للاستحواذ على الدولة ومؤسساتها، بحيث تفتقر البلاد لأي مقومات عمل اقتصادية أو مادية يمكن أن تواجه تغولها على المجتمع والدولة وتحويل الشعب لمجرد جمهور تابع. ولربما أجاد السياسيون المصنفون أعداءً، بتوصيف السياسة الاقتصادية السورية وتوقع انهيارها منذ زمن بعيد، وأهمها ما كتبه شمعون بيرز، وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، الذي درس اقتصاديات المنطقة منذ تسعينيات القرن الماضي بكتابه "الشرق الأوسط الجديد"[13]، خاصة في تضخم ميزانيات الدفاع لنسبة تصل لـ 85% مع انخفاض هائل في قطاعي الصحة والتعليم لما دون الـ 1% في مقابل انحسار المشاريع الاستثمارية لما دون الـ 3%، فكيف وإن تحولت لساحة حرب كبرى محلياً وإقليمياً وتدخلات دولية كبرى! فسوريا دولة مسروقة الاقتصاد والتنمية والسياسة ومعدومة الحرية، حسب توصيف آلن جورج عام 2003 في كتابه "سوريا لا خبز ولا حرية"[14]،
الاستملاك والاستحواذ العمومي
منذ تحولت المسألة السورية من ثورة شعب للحرية والكرامة تستهدف استرداد الدولة من السلطة المركزية المتحكمة بها، كسلطة استبداد سياسي مطلق، إلى ساحة حرب مفتوحة تداخلت بين صراع محلي وإقليمي ودولي، بدأت ملامح التغير في السياسة الاقتصادية السورية عامة. الاقتصاد الذي بدأ بالانهيار بشكل متتالٍ لدرجة أن ما يزيد عن 85% من السوريين باتوا دون خط الفقر، وذلك حسب تقرير اليونسيف لعام 2018[15]، وفاق الـ 90% حديثاً، في مقابل زيادة الغنى الفاحش لدى قلة من السلطة الحاكمة وأذرعها المنفذة والداعمة لها عسكرياً وأمنياً واقتصادياً وسياسياً. البوابة الأوضح في هذا التطور هو سياسة توزيع أملاك السوريين المهجرين والنازحين، والموجهة لهم تهم الإرهاب، على تلك الفئات.
حيث لم تكتفِ السلطة القائمة بوضع اليد على عقارات ومناطق السكن العشوائية في المدن السورية، بل تابعت باتجاه الملكيات الزراعية في الأرياف التي مثلت مسرحاً للعمليات العسكرية بداية، وتحولها بعد ذلك لمصادر للاستحواذ والسطو بوضع اليد المباشرة أو بسن القوانين التشريعية وقوننة الاستيلاء عليها استثماراً أو بيعاً أو استملاكاً.
لقد قدمت العمليات العسكرية للسلطة السورية وعمليات التهجير الجماعي لقرى وبلدات وأحياء واسعة في المدن السورية، خاصة مدن وبلدات (حمص، دمشق وريف دمشق، حلب وريفها، وريفي حماة وإدلب) الفرصة الذهبية لهذا الاستيلاء واسع النطاق مع وجود ملايين المهجرين والنازحين واللاجئين والذين بلغ عددهم ما يزيد عن 13.6 مليون سوري[16]؛ إلى جانب تفعيل دور محكمة الإرهاب والابتزاز المالي لمن توجه له هذه التهم، مع ممارسة الترهيب والتخويف على غالبية السوريين المتبقين في مناطق النزوح، أو المتبقين في مناطق سيطرة ميليشيات وفصائل السلطة الرسمية منها والرديفة. هذه العمليات والسياسات الممنهجة حققت عدة أغراض اقتصادية وسياسية أهمها:
الأولى: إرضاء واستمالة ضباط الأمن والجيش وقادة الميليشيات وأفرادهم التابعة، بحصص من الملكيات السورية العامة، لقاء الخدمات العسكرية والحربية التي يقدمونها للدفاع عن السلطة ومركزيتها السياسية، مع ضمان ولائهم.
الثانية: تعزيز نزعة الاستملاك المجاني والثراء الفجائي وإغراء الآخرين على ممارسة ذات النهج لضمان الاستمرارية في العمل العسكري.
الثالثة: تجريد السوريين من مقومات الحياة المادية والاقتصادية وبالتالي تحويلهم لمنزوعي القوة المادية القادرة على مواجهة المد الحربي ومن ثم السياسي.
طرق استملاك العقارات السورية متعددة الأنماط، ويمكن تصنيفها إلى ثلاثة محاور:
الأول: استملاك بحكم القوة المباشرة، سواء بوضع اليد بالقوة، أو بالاستئجار او البيع بالمزاد العلني، مع تصدير القوانين المحلية التي تمنح حقوق الاستملاك والاستثمار طويل الأجل.
الثاني: استملاك بقوة القانون المبرم والمعزز بمرسوم تشريعي رئاسي. وأهمها تجهيز مخططات إعادة الإعمار والاستيلاء على العشوائيات والمناطق غير المنظمة التي كانت يسكنها السوريون، والتي بات من الصعب إثبات ملكيتها لأسباب متعددة.
الثالث: تيسير عمليات شراء العقارات لصالح الإيرانيين عبر وكلاء محليين والمتسلحة بقوة قانون الإرهاب.
استملاك بالقوة وتحول لإيجار وبيع بالمزاد العلني
حسب مسح ميداني موثق بشهادات محلية من أرياف حلب والغوطة الدمشقية، أجرى موقع فوكس حلب متابعة لتسلسل عمليات السطو بالقوة على أملاك السوريين العقارية والزراعية في مراحل الحرب القائمة. فحسب وثائق الموقع فإن كل منطقة عمليات عسكرية يتم الاستيلاء عليها، بدءاً من 2014، توزع ملكياتها على الضباط وقادة الميليشيات الرديفة لاستثمارها[17]، وذلك قبل الوصول لتنظيم هذا السطو بقوانين إيجار واستثمار لاحقة بمزادات علنية خاصة بعد عام 2020. حيث أطلقت سلطة النظام يد أعوانها من الضباط والمسؤولين وزعماء ميليشيات الشبيحة والدفاع المحلي للسطو على أملاك السوريين في مناطق العمليات العسكرية، سواء كانت عقارات أو أراض زراعية، بطرائق أمنية وعسكرية متعددة منها: الاستيلاء المباشر على أملاك الغائبين من السوريين المهجرين، الاستيلاء على عقارات المعارضين السوريين بتوجيه تهم الإرهاب لهم، ووضع اليد المباشرة على عقارات البعض تحت تصرف هذه القادة ومثالها الأوضح منزل الإعلامي فيصل القاسم في السويداء الذي حول لمقر لميليشيات الدفاع الوطني[18].
سطوة القوة العسكرية، وغياب أصحاب الأملاك قسرياً، وإطلاق يد قانون مكافحة الارهاب ومحكمة الإرهاب بتوجيه تهم الإرهاب للمعارضة السورية، والمناطق الخارجة عن سيطرة السلطة والتي تحولت لمسرح عمليات عسكرية ومن ثم الاستيلاء عليها عسكرياً، حولت الكثير من العقارات والأراضي السورية لعمليات سطو ممنهج، مخالفة بذلك الدستور والقانون المدني السوري والأعراف الدولية المعمول فيها. حيث ينص القانون المدني السوري في مادته 770 على أنه: لمالك الشيء الحق في كل منتجاته وثماره وملحقاته، ما لم يوجد نص أو اتفاق يخالف ذلك[19]. فيما أتى قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012، والقانون 22 لذات العام الخاص بإنشاء محكمة الإرهاب بعد طي قانون الطوارئ، ليطلق يد الأجهزة الأمنية بالسطو على أملاك السوريين مدعومة بقوة قانون مكافحة الإرهاب.
بدأت عمليات السطو والاستملاك بالقوة عبر توزيع العقارات على الضباط وقادة الميليشيات واستثمارها في ريف حماة الشمالي والشرقي، مروراً بأرياف إدلب وحلب ودير الزور، وصولاً للغوطة الغربية ومن ثم الشرقية بعد عام 2018. فيما أتت الإجراءات التنظيمية لعمليات الاستملاك هذه متشابهة في كافة المناطق السورية حيث يعزى لتشكيل لجان تنظم بدايةً لتأجير الأراضي واستثمارها ومن ثم طرح استئجارها أو بيعها بمزاد علني مستغلين بذلك غياب السوريين المهجرين أو المختفين قسرياً أو المعتقلين عن عدم قدرتهم الشخصية أو وكلائهم بحق إثبات ملكياتهم. وفي حال تم الإجراء القانوني في هذا يكون الترهيب الأمني وتهم الإرهاب جاهزة للضغط على أصحابها للرضوخ لهذه العمليات، وذلك حسبما وثقته شهادات سكان تلك المناطق. ما يؤدي، وحسب تحقيقات فوكس حلب، والشهادات الموثقة من أصحابها في هذا الشأن أن وضع اليد على العقار يشكل المرحلة الأولى للتحول إلى صفة حائز ونفي عنه صفة الغصب من خلال التدرج في تشريع الحيازة وبالتالي إلى اقتلاع ملكية السوريين من أراضيهم وعقاراتهم.
في شهادة موثقة لمحام سوري، لا يمكنه التصريح عن اسمه، يعمل في قضايا الإرهاب: هناك شبكة من المحامين المعروفين بعلاقاتهم الوطيدة مع قضاة محكمة الإرهاب، مهمتهم التوكل عن السوريين الموجهة لهم تهم الإرهاب، والعمل على ابتزازهم مالياً ومادياً والمعادلة الموضوعة هي تخليص ملكيات السوريين ببيعها، والبيع يتم عبر وسطاء معروفين بشرائهم العقارات لصالح جهات محددة، ودفع هذه الأموال لقضاة المحكمة ومحاميها وتوزيعها لحصص. والنتيجة: عقارات وأراضي تباع لغير السوريين، والأموال تحول لضباط ومحامي محكمة الإرهاب. وفي مواقع أخرى أوضحت مجزرة حي التضامن عن الفائق من الأعمال الجرمية غير المكتشفة بحق السوريين، وأن الشهادات التي لا يستطيع أصحابها الإدلاء بها سواء قتلوا أو لا يجرؤون على التصريح بها لم توثق ولم تظهر للعلن، والخاصة بإجبار الكثير من السكان على توقيع عقود بيع لعقاراتهم وأملكاهم في هذه المناطق المصنفة بالعشوائية، قبل أو بعد أن تمت تصفية أصحابها، هي عمليات جرت لصالح قادة ميليشيات محلية بالتعاون مع الأجهزة الأمنية، تحتاج للإثبات مع تكشف تلك الجرائم.
لقد تم وضع اليد على أراضي وعقارات وأملاك السوريين المغيبين عن مناطق واسعة بين عامي 2014 و2020 من قبل قادة الميليشيات المحلية والشبيحة وضباط الجيش بشكل مباشر أو بواسطة وكلاء، كل في منطقة نفوذه. في عام 2020 سعت سلطة النظام وحكومته لحصر هذه الأملاك وتأجيرها عن طريق مزادات علنية، كخطوة لتنظيم هذا الاستملاك وتقنين شرعيته. عليه أوعزت الحكومة للجان الأمنية في تلك المناطق وبالاستعانة بممثلين عن مجالس المحافظات واتحاد الفلاحين وشعب حزب البعث، ومخاتير القرى، من أجل إحصاء الأراضي الزراعية المهجورة وتحديد ملكيتها ومساحتها، بغية تقدير بدل الإيجار أو الاستثمار، على أن تكون الأفضلية لأقارب الملاك بالنسبة للأشخاص غير المطلوبين أمنياً، أما المنشقين أو المعارضين فمنحت أراضيهم لقادة مجموعات الشبيحة أو لضباط في الجيش والأمن من أجل استثمارها. هذه الأعمال وردت في تقارير متعددة ترصد هذه الانتهاكات، نرصد منها مثالاً في هذا السياق ما وثقته مواقع عدة منها سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، حيث الاستيلاء على 60 ألف دونم من أراضي مزارعي ريفي حماة وادلب[20]، ومن ثم تم تقنين ذلك بمزاد علني تنظمه وتستثمره مالياً اللجنة الأمنية في المحافظة[21]. فيما وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن 440 ألف دونم تم الاستيلاء عليها في ريف حلب وحماة وإدلب، حيث تم رصد ما لا يقل عن 22 إعلان لمزادات علنية، شملت قرابة 134 قرية وبلدة في محافظة حماة، و88 قرية وبلدة في محافظة إدلب[22]. وقد شملت تلك الأراضي، حسب هيومن رايتس ووتش، الأراضي المزروعة والمستخدمة لزراعة الفستق الحلبي والزيتون والقمح بشكل رئيسي، وأنواع أخرى من المحاصيل[23]. فيما أحصي عدد القوانين والمراسيم الصادرة في الفترة ما بين 2011 و2021 بعدد يقدر بـ 41 قانوناً ومرسوماً، شملت تمّلك الأجانب، والتطوير العقاري، ومخالفات البناء، والمناطق التنظيمية، والوثائق العقارية المفقودة والتالفة، ومصادرة أملاك المدنيين بموجب قانون مكافحة الإرهاب[24]. مقابل ما لا يزيد عن 30 قانوناً بين عامي 1970 و2011 بعد استتباب قوانين التأميم سابقة الذكر.
من المفيد التوضيح أن هذه المراسيم والقوانين أتت لشرعنة نزع السوريين أملاكهم لصالح أذرع السلطة وأدواتها وفق قوانين تظهر وكأنها شأن قانوني محلي. لكن في تفصيلاتها وحيثياتها، فقد واجه السوريون من أصحاب الملكيات الأساسيين الكثير من التعقيدات الأمنية في استخلاص الثبوتيات القانونية لمالكي الأراضي لإثبات حقهم فيها وذلك لمنع الاستفادة من المهلة القانونية التي أتاحها القانون، أضف لوجود الألغام والتحكم فيها أمنياً لمنع الوكلاء من معاينة الملكيات، كما ألزام أن تخضع الوكالات للموافقات الأمنية، ما فتح المجال للرشاوي من جهة، ولهدر الكثير من الحقوق من جهة أخرى، بحرمان أصحابها من الوكالات القانونية.
الاستملاك المسنود بالقوانين
بعد إجلاء سكان الغوطة في ريف دمشق عام 2018، وتخلص السلطة السورية من الخطر الأكبر الذي يهددها بالقرب من العاصمة دمشق، أصدرت السلطة السورية مرسوم القانون رقم 10 لعام 2018[25]، الذي جاء في مادته الأولى: يصدر بمرسوم بناء على اقتراح وزير الإدارة المحلية والبيئة إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية المعرفة بالمرسوم التشريعي رقم 107 لعام 2011 استناداً إلى دراسات ومخططات عامة وتفصيلية مصدقة وإلى دراسة جدوى اقتصادية معتمدة.
القانون رقم 10 عام 2018، وحسبما وثقت ورصدت هيومن رايتس ووتش، لا يحدد معايير محددة لتصنيف المنطقة كمنطقة تنظيمية، أو جدولاً زمنياً لتعيين المناطق. بل تُعيَّن المناطق كمناطق تنظيمية وفق مرسوم، وخلال أسبوع من صدور المرسوم القاضي بإعادة إعمار منطقة ما، وعلى السلطات المحلية طلب قائمة بأصحاب العقارات من الهيئات العقارية الحكومية العاملة في تلك المنطقة. فيما على الهيئات تقديم القوائم في غضون 45 يوماً من تلقيها طلب السلطات المحلية[26]. وقد حدد القانون في مادته رقم 10 تقدير قيمة العقار قبل صدور المرسوم ويسقط عنه أي ارتفاع في الأسعار اللاحقة، مبرراً ذلك بالمضاربة التجارية، فيما أن انهيار العملة السورية لم يدخل بالحسبان من الأساس. كما وأجاز القانون اقتطاع ملكيات خاصة من أجل المنفعة العامة دون تعويض مالي، وهو ما جاء في المادة 21: يقتطع مجاناً وفق المخطط التنظيمي العام والمخطط التفصيلي جميع الأراضي اللازمة لإنجاز وتنفيذ طرق وساحات وحدائق.. دون بدل أو تعويض. فيما تعتبر المناطق التنظيمية شخصيات اعتبارية تمثلها الوحدة الإدارية تحل محل جميع المالكين في المنطقة حسب المادة 22. وهذا، حسبما وثقته واستخلصت نتائجه عنب بلدي، يخالف المادة 15 من الدستور السوري، التي تنص على أنه: لا تنزع الملكية الفردية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل وفقًا للقانون[27]. وجاء في المادة 27 من نص القانون: تقوم الوحدة الإدارية بتنظيم سجلات قيود الملكية السهمية ورقياً ورقمياً بما يحافظ على الملكيات السهمية والحقوق العينية وتصدر سندات اسمية بأسهم المقاسم التنظيمية على الشيوع وتسلم إلى مالكيها خلال فترة /6/ ستة أشهر من تاريخ اكتساب قرار لجنة التوزيع الدرجة القطعية بفوات مدة الطعن فيه أو البت بالطعون في حال وقوعها.
فيما يتعلق بالمخططات التنظيمية المزمع تنفيذها، فقد مثلت العشوائيات المادة الخام لخطط إعادة الإعمار المفترضة. حيث وقع وزير الخارجية الروسي عام 2020 اتفاقيات اقتصادية لتسهيل الاستثمار والاستعداد لخطط الإعمار[28]، أهمها عقارياً المناطق المسماة بالعشوائيات، أو خارج المخططات التنظيمية الرسمية. فوفقاً لدراسات إحصائية عامة، فإنه تعيش نسبة كبيرة من سكان سوريا في مساكن عشوائية، إذ يقدر أن الإسكان العشوائي ما بين 30% إلى 40% من إجمالي الوحدات السكنية قبل ثورة 2011. كان مثل هذا النوع من المساكن سائداً على نحو خاص في المناطق شبه الحضرية التي كانت مصدراً رئيساً للحراك الثوري في معظم المدن السورية، والتي عانت طويلاً من الحصار ومن شدة العمليات العسكرية ومن الدمار والتشريد خلال الصراع اللاحق، حيث تقدر المنظمات الأممية أن 40% من البنية التحية والمدن السورية قد تم تدميرها حسب تقرير يونيسف أعلاه. حسب وثائق مبادرة الإصلاح العربي، والتي أفادت أن الحكومة والسلطة السورية قد وجدت في الواقع العشوائي الهائل للمدن السورية ما قبل الحرب والصراع، ثغرةً تستطيع أن تدفع من خلالها بعملية تحسين تنظيمية ذات أغراض سياسية يمكنها أن تعيد تشكيل واقع سوريا ما بعد الصراع لصالح المقربين من المتنفذين بالسلطة وأعوانهم الجدد على حساب حقوق السكان المحليين. لم يحظ هذا التصور باهتمام كافٍ في العمل المهم الذي اضطلعت به أطرافٌ فاعلة سوريةٌ ودولية في محاولة لمعالجة آثار نظام التخطيط العمراني الخاص بالحكومة وإطاره التشريعي الذي يمهد الطريق الآن أمام عملية أوسع لإعادة الإعمار المفترضة[29].
المخططات التنظيمية لإعادة الإعمار وضعت ولم تنفذ بعد، لكن خطط الاستلاء تمت قانونياً، ولا يمكن كشف موادها بعد تفصيلياً حتى يبدأ العمل بتنفيذها، ولكن الشهادات المحلية لسكان المناطق العشوائية في جنوب دمشق في أحياء التضامن ويلدا وببيلا والحجر الأسود ومخيمي اليرموك وفلسطين، لليوم مناطق تعتبر أمنية لا يصرح بالدخول إليها إلا بتصريح أمني ويمنع على سكانها إجراءات إعادة إعمار منازلهم، ومن يتمكن من إثبات ملكيته لعقاره تأتي المعيقات الأمنية والتعقيدات الإجرائية لتعرقل أي عمل ممكن. فيما نفذت بعض عمليات البناء في مناطق المزة والقريبة من السفارة الإيرانية، وكفر سوسة وداريا بعد إخلاء سكانها منها وترك موضوع التعويضات وبدل الإيجار لتقدير اللجان الأمنية والتي تنفذها وفقاً للمرسوم 10، والذي يعتبر أن السكان الأصليين قد تركوا منازلهم لقاء لا شيء، فالتقديرات المالية ما قبل 2018 لقيمة الليرة السورية تعادل عُشر قيمتها اليوم، عدا عن عدم إمكانية امتلاك منزل بأي مكان وفق هذه القيم المتدنية والتي لا تداني القيم السوقية لسوق العقارات.
تسهيل عمليات البيع والاستملاك عبر وكلاء محليين
وفي ذات السياق، وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان شراء العقارات عبر وكلاء سوريين لصالح إيرانيين. فقد أفادت العديد من التقارير عن توالي شخصيات سورية مقربة من لواء العباس الإيراني باصطياد أي عقار في مدن الغوطة الشرقية وشرائه بمبالغ طائلة والاستيلاء على عقارات وأراض واسعة في محيط مطار دمشق الدولي[30]، كما وعن ضلوع مقربين من رأس السلطة في سوريا بشراء عقارات واسعة في مناطق متعددة من سوريا، خاصة في ريف دمشق[31] وحلب والسويداء والتي لا توجد وثائق رسمية بها، بقدر وجود شهادات محلية لبيع أراض وعقارات كثيرة عبر وسطاء محليين لصالح ممولين إيرانيين مدعومين من الأجهزة الأمنية.
فيما أتت سياسة التضييق على التجار والصناعيين، سواء في حلب أو دمشق، والتي تشمل عدم ترميم البنى التحتية وشح الكهرباء، أضف إلى الابتزاز المالي لذوي المعتقلين، والتي قال عنها عدد من التجار أنها إجراءات لسلب أموال وأرزاق التجار، حسبما وثقته وكالة نورث برس[32]. فيما وثقت نون بوست أساليب التضيق على التجار وجبي الضرائب والإتاوات لصالح الأجهزة الأمنية وقادة الميليشيات في مدينة حلب، حيث يسعى ما يسمى بالمكتب السري والذي يقوم، وبمساعدة قاطرجي وأبو علي خضور المقربين من رأس السلطة، بالتضييق على تجار حلب لبيع ممتلكاتهم بغية خلق طبقة تجار جديدة موالية وتابعة للسلطة[33].
فيما وثقت شهادات متعددة عن قيام الإيرانيين بشراء شقق وقبلات في دمشق بنسب متعالية وبتسهيلات مالية إيرانية وأمنية سورية، حيث تتركز في منطقة السيدة زينب بشكل رئيس، امتداداً لقلب العاصمة دمشق، سواء بالشراء أو الإيجار طويل الأمد منها عدد من الفنادق المعروفة ومساحات ومحال تجارية في جوار الجامع الأموي، وتمتد لريفها في الغوطة شرقاً وغرياً[34]. فقد اشترت الميليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني ما يقرب من 370 قطعة أرض حول منطقة الزبداني، وما لا يقل عن 505 قطع أخرى في منطقة الطفيل الحدودية اللبنانية، عدا عن استيلائها الكلي على مدينة القصير وعن صفقة المدن الأربعة (كفريا والفوعا والزبداني ومضايا) والتي فسحت المجال الواسع للتغير الديمغرافي فيها والاستيلاء شبه الكلي على ممتلكات تلك المناطق في ريف الغوطة الغربي. كما استولت على أماكن سكنية فاخرة في بلودان، وتجري مفاوضات الشراء عبر الوسطاء وأصحاب المكاتب العقارية، وتضع الميليشيات منازل السوريين خارج البلاد نصب أعينها لشرائها أكثر من غيرها[35]. بحسب الإندبندنت، فإن حزب الله اللبناني يوسع نفوذه في سوريا من خلال شراء أراضٍ وشقق سكنية، مشيرةً إلى أن الحزب يعمل على شراء ومصادرة الممتلكات العقارية في المناطق الحدودية، كما اشترى الأراضي في أطراف العاصمة دمشق، مؤكدة أن عناصر ومقاتلي الحزب اشتروا نحو 875 قطعة أرض في ضواحي دمشق، و315 شقة في مناطق مختلفة[36].
ذكر تقرير ميداني أعده "الفريق الرقمي للثورة السورية" ونشرت حيثياته جريدة الشرق الأوسط، مفاده أن إيران جندت شبكة من العملاء في المخابرات والأمن ومن تجار العقارات ومجموعات السماسرة وأصحاب المكاتب العقارية في سوريا، عبر ضخها ملايين الدولارات في محاولة منها لشراء عقارات وأملاك السوريين المنهكين من الحرب والراغبين بالفرار من الموت لخارج سوريا بأية طريقة، لصالح أفرادها وعناصرها في كل منطقة حيوية. ووفقاً للتقرير أن البيع يأتي نتيجة الضغط على أصحابها ومصادرة أموال الفارين من بيوتهم تحت ذريعة مصادرة أموال داعمي الإرهاب[37]. لتبدو عمليات الشراء هذه قانونية موثقة ذات دلالة واضحة في تجريد السوريين ممتلكاتهم ومتابعة لعمليات السطو بالقوة المباشرة أو بفعل القانون، والنتيجة التغير الديمغرافي وشرعنة الوجود الحالي بسياسة الأمر الواقع وسلطاته القائمة، في فعل ممنهح يشبه تماماً ما فعلته الوكالة اليهودية وبذات الأدوات مع الفلسطينيين قبل وبعد حرب ما سمي بنكبة 1948.
الاستثمار ما بين التأميم والاستملاك
بين التأميم والاستملاك الحالي، دخلت سوريا في عملية الاستثمار بدءاً من عام 1991 بالقانون رقم 10[38] وتعديلاته، والذي اعتبر في وقتها نقلة نوعية باتجاه اقتصاد السوق والانفتاح، خاصة أن القانون أتاح للمستثمر السوري وغير السوري الاستثمار في مجمل القطاعات الإنتاجية السورية مع تسهيلات بنكية وضريبية. لكن وبعد العام 2011 بدأت تتكشف ألية استثمار هذا القانون لصالح أفراد محدودين مقربين من السلطة والأسرة الحاكمة. ليأتي الخلاف الحاد بين رأس السلطة وزوجته أسماء الأخرس بشكل خاص وأحد أذرعها الاقتصادية الكبرى بل الأكبر، رامي مخلوف، عام 2020، ليوضح مدى استحواذ هذه السلطة بأذرعها المحدودة على مجمل عمليات الاستثمار السورية. إذ تشير التقارير الصادرة عن إمبراطورية رامي مخلوف أنها تصل لـ 7% من مجمل الناتج المحلي والمقدر بـ 62 مليار دولار عام 2010؛ وسيطرته على العديد من القطاعات الإنتاجية الاستثمارية كان أولها قطاع الاتصالات السوري، والبنوك والمصارف الخاصة ليس آخرها. فيما لقب بالسيد 5% كناية عن النسبة التي يتقاضاها من أي مشروع استثماري في سوريا، وإلا تمت عرقلته أمنياً او الاستحواذ على المشروع كلية (ومثالها الأوضح الجامعة السورية الدولية)، وهو ما أشارت إليه وزارة الخزانة الأميركية بعدما فرضت عقوبات على رامي مخلوف في 2008: "مخلوف استخدم الترهيب وروابطه الوثيقة بنظام الأسد للحصول على مزايا في مجال الأعمال"[39].
يأتي قانون الاستثمار الجديد، القانون رقم 18 لعام 2021[40]، متمماً ومعدلاً لسابقه بذات السياق، لكن مع تشجيع رساميل جديدة ناشئة من الطبقة الجديدة الناشئة بسوريا بحكم الحرب وتهيئة الظروف القانونية والضريبية لرساميل ومستثمرين غير سوريين لملاقاة مشاريع إعادة الإعمار المفترضة. في هذا السياق ظهرت أسماء رساميل سوريا جديدة كسامر الفوز وقاطرجي وغيرهم، في محاولة للالتفاف على العقوبات الأمريكية الموقعة بقانون "سيزر" على السوريين المقيدين على قوائم ممولي الحرب وجرائمها[41]. ما يفسر الاستيلاء على شركات رامي مخلوف وتحويل إدارتها لأشخاص مقربين من رأس السلطة، تعزز مركزية وموقع السلطة السياسية ممثلة بشخص الرئيس وزوجته مع العديد من معاونيه الأمنين والعسكرين والاقتصادين، الموقف الذي وصفت به الأسد الغارديان البريطانية بالعامل الأساسي فيما تبقى من سوريا[42]. التغير في تركيبة البنية المالية للاقتصاد السوري، أتاحتها ظروف الحرب والاستثمار فيها بشتى الطرق، سواء بالاستيلاء على ما تبقى من أملاك السوريين أو تبديل مواقع النفوذ للأكثر ولاءً، مع تصفية المتنفذين القدامى من عسكريين ورجال أعمال لصالح طبقة جديدة أكثر ولاءً وفساداً، ومهمتها الرئيسية العمل على تأمين سيولة نقدية لرفد خزينة الدولة بعد أن تم الحجز على أموال العديد من رجال الأعمال السوريين في لبنان بعد توقيع العقوبات مترافقة مع تسهيلات بنكية وضرائبية ودعم أمني. وهذه لم يتسنَّ لنا التأكد من كميتها ودقتها الفعلية، سوى أرقام بملايين الدولارات، وربما مليارات تسرب بلا مستندات موثقة، كونها بنكية وتعتبر سرية. ما يؤكد أن الازمة السورية في اقتصادها سياسية بداية، وريعية ثانياً، إضافة لتوسيع دائرة المستفيدين من العملية الريعية إيجاراً واستملاكاً محلياً (دوائر المستفيدين التي تم تخليقها خلال الـ 10 سنوات) أو خارجياً من المقربين من السلطة، خاصة الإيرانيين والروس ثالثاً واستملاكي استحواذي أخيراً، والنتيجة سلسلة من الكوارث المحققة بحق السوريين عامة بدءاً من القطاع الخاص مروراً بالاستثمار واقتصاد السوق، وصولاً للمتبقي من السوريين من تجار وأصحاب عقارات ومشاريع صغيرة، وتعميماً على ممتلكات السورين المهجرين والنازحين دون ضوابط أو روادع قانونية بمفهومها المتعارف عليه، بل بتعزيز هذه الأعمال بمراسيم وتشريعات مبرمة مدعومة بقانون الإرهاب والأجهزة الأمنية.
النتائج والخلاصة
الاستملاك هو الحلقة الأوسع والأكثر اتساعاً في الهيمنة على مقدرات السوريين بشكل أفقي، فبعدما كان التأميم والاستثمار يأخذ طابعه العمودي المتعلق بالقطاع الخاص والمستثمرين من رجال الأعمال، بات اليوم يطال كافة الشرائح السورية، والمشرعنة بقوانين ومراسيم تشريعية. هذا ما يفسر كثرة التشريعات والقوانين التي أشرنا إليها أعلاه في هذا السياق والمتعلقة بالملكيات العامة السورية واستملاكها. وهذه تعتمد في طياتها على سلسلة من الإجراءات التي نستخلصها وفق ما يلي:
استصدار القوانين التي تشرعن عمليات الاستملاك الجائرة.
تعزيز التغيير الديمغرافي في البنية السورية من خلال النزوح والهجرة واسعة الطيف، واعتبار مواقعها مناطق حرب قابلة للاستيلاء عليها.
فقدان وثائق إثبات الملكية الرسمية من سندات وسجلات عقارية لأصحابها، والدمار الكبير الذي لحق بالدوائر العقارية والمحاكم ذات الصلة التي أفقدت الكثير من هذه الوثائق.
تعطيل الوكالات القانونية بالموافقات الأمنية.
الملاحقات الأمنية وقوانين محكمة الإرهاب الجائرة.
الاعتقال والاختفاء القسري وعدم وجود شهادات وفاة وحصر ميراث ناتج عنها.
الاستملاك بالقوة والتأجير والبيع بالمزاد العلني للمغيبين السوريين.
المصادرات عريضة النطاق للعشوائيات والعقارات والأراضي الزراعية بقوانين ومراسيم.
الشراء المتزايد للأراضي والممتلكات السورية لجهات خارجية وعبر وسطاء محليين، وفتح بوابات السفر خاصة للشباب والصناعيين والتجار السوريين.
أضف إلى جسامة الأضرار في البنية التحتية ودمار نحو ثلث المساكن جزئياً أو كلياً، وعدم أمان عودة النازحين السوريين وتخوفاتهم الأمنية ما لم يحدث التغيير السياسي المطلوب، والطرق الأمنية المعرقلة للترميم عامة، وعجز الميزانيات الحكومية عن تلبية حاجات السوق المحلية سوى بالإنفاق العام المقنن بالبطاقة الذكية.
والنتيجة، ترهيب فتهجير، إفقار عام فتفريغ للمتبقي من السوريين بدفعهم للسفر خارج سوريا بأية وسيلة، والمتبقي منهم منقسمون بين طبقة خيالية الغنى والأملاك من قادة الميليشيات والضباط وتجار الحرب من رجال الأعمال الجدد والمقربين من دائرة السلطة وهم قلة قليلة. فيما الطيف الواسع من السوريين عليهم أن يختاروا رغماً عنهم التعايش مع كل هذه الظروف غير الإنسانية وغير الحقوقية في ظل سلطة جائرة تحتكر حتى التنفس ورغيف الخبز، وأي رفض لها فمحكمة الإرهاب بالمواجهة ومكافحة الإرهاب هو القانون الساري المفعول على كل السوريين حتى الموالين لها تحت عنوان تبديل المواقع لصالح الأكثر ولاءً ومنع بروز أشخاص منهم يؤهل ليصبح منافساً ويخرج عن قوانين السلطة المركزية وفردانية حكمها.
التهيئة قائمة على قدم وساق لملاقاة مشاريع إعادة الإعمار التي لن يستفيد منها سوى الدائرة المقربة من السلطة القائمة كسلطة أمر واقع، بعدما تم تجريد السوريين من مقومات حياتهم المعنوية والمادية لدرجة إغراقهم في تفاصيل لقمة العيش، فسوريا خارج التصنيف العالمي حرية وتربية وتعليم ومتربعة على قائمة الدول الأكثر فساداً والأكثر انتهاكاً للحقوق المدنية وخاصة الأطفال، والأقل دخلاً على مستوى الأفراد في العالم.
إنها مسيرة الانتقال من الاشتراكية المزعومة إلى العبودية العصرية المستحدثة، وسوريا بيئة خصبة لها ومثالها الأوضح.
المصدر: مركز دراسات ليفانت - المهاجرون الآن
الهوامش والمراجع:
[1] خلدون حسن. النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1991، ص290.
[2] الاقتصاد السوري في عشرة أعوام دلالات ومغالطات، مركز أسبار الشرق الأوسط للدراسات والبحوث، 11/2021.
[3] بوتين يوقع اتفاقية توسيع قاعدة طرطوس
[4] القانون 22 لعام 2012 إحداث محكمة للنظر في قضايا الإرهاب مقرها دمشق، مجلس الشعب
[5] النص الكامل لقانون الطوارئ في سوريا، زمان الوصل، 31/3/2011.
[7] بشير الجندي، القرارات الاشتراكية والتأميم في سوريا في زمن الوحدة، ملتقى العروبيين، 29/9/2020.
[8] التأميم في سوريا، التاريخ السوري المعاصر
[9] باتريك سيل، الأسد الصراع على الشرق الأوسط، ط 10، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 2007، ص 161.
[10] باتريك سيل، مرجع سابق.
[11] دستور سوريا 1973، المادة الثامنة
[12] التأميم في سوريا، التاريخ السوري المعاصر، مرجع سابق.
[13] شمعون بيرس، الشرق الأوسط الجديد، ترجمة حلمي عبد الحافظ، الأهلية، الأردن، 1994.
[14] آلن جورج، سوريا.. لا خبز.. ولا حرية، ترجمة: حصيف عبد الغني، بلا دار نشر، 2003.
[16] التقرير العالمي 2019 سوريا، هيومن رايتس ووتش
[17] من الاستثمار إلى الاستملاك، نهب أراضي السوريين جريمة حرب، فوكس حلب
[18] مصادرة منزل إعلامي سوري شهير
[19] القانون المدني السوري لعام 1949.
[21]حماة: مزادات حكومية لبيع أراضي نازحين، شبكة حقوق الأرض والسكن، 27/10/2021
[22] الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 11/2/2021
[23] هيومن رايتس ووتش
[25] موقع رئاسة مجلس الوزراء السوري، القانون رقم 10 لعام 2018، 4/2018
[26] قانون الملكية الجديد في سوريا، هيومن رايتس ووتش، 29/5/2018.
[27] "القانون 10.. تنظيم أم استملاك أم تغيير ديمغرافي، عنب بلدي، 29/4/2018.
[28] الأسد يُشَرِّعُ الأبواب لمزيد من النفوذ الروسي
[29] المناطق العشوائية في سوريا: ما هو النهج في أعقاب الصراع؟ مبادرة الإصلاح العربي، 18/10/2021.
[32] هجرة 37 ألف صناعي من دمشق وحلب في أسبوعين، نورث برس، 25/9/2021.
[33] ما يُروّجه لا يعكس الواقع.. النظام يضيّق الخناق على تجار حلب، نون بوس، 14/9/2021.
[34] اعتراف إيراني بموجة شراء العقار في دمشق، عربي 21، 6/4/2016.
[35] عبر وسطاء محليين.. إيران تلتهم سوق العقارات في سوريا، نون بوست، 16/9/2021.
[36] إيران توسع نفوذها في سوريا بشراء الأراضي على الحدود اللبنانية، المدن، 2/9/2021.
[37] نشاط إيراني في سوق العقارات السورية.. وتحذير من مشروع "استيطان" الشرق الأوسط، 26/3/2016.
[38] القانون 10 لعام 1991 قانون استثمار الأموال في الجمهورية العربية السورية، مجلس الشعب، 4/5/201
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!